الجمعة، 4 نوفمبر 2022

بيان وهن حديث شرب القرآن كشرب اللبن

                                                           بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله واهب النَّعم، وصلَّى الله على نبيَّه الذي أوتي جوامع الكلم، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أمَّا بعدُ
فقد وضَع أحدهم منشورًا في المسجد العتيق لحي البغازلية بالرَّباح، يحوي حديثًا حسَّنه الشَّيخ الألبانيُّ رحمه الله. ألا وهو حديث عقبة بن عامرٍ مرفوعًا: (يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَشْرَبُونَ الْقُرْآنَ كَشُرْبِهِمُ اللَّبَنَ). فقرَّرت دراسته؛ لما أعلم مِن عدم تحرِّي العَّامة للصَّحة، وحتَّى إن وقع التَّحري، فقد يكون أخَذ بالحديث تقليدًا لمن يُحسن الظَّن به.
فأقول بالله مستعينًا: الحديث أخرجه الرُّويانيُّ في "مسنده" (ج1ـ 249) ط/ مؤسَّسة قرطبة بالقاهرة، واللَّفظ له. وأخرجه الطَّبرانيُّ في "الكبير" 17ـ 821) ط/ مكتبة ابن تيمية بالقاهرة، والجمالي الحنفيُّ في "مسند عُقبة بن عامرٍ" (ج1ـ 208). قال الهيثميُّ في "مجمع الزَّوائد" (ج6 ص229) ط/ مكتبة القدسيٍّ بالقاهرة: "رواه الطَّبرانيُّ، ورجاله ثقاتٌ". اهـ وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ مدار الحديث على بكر بن عمرٍو المِصريِّ، ضعيفٌ يصلح في الشَّواهد والمُتابعات، كما يستفاد مِن كلام الدَّار قطنيِّ وأبي حاتمٍ الرَّازيِّ رحمهما الله. يرويه عن شُعيب بن زُرعة، عن عُقبة بن عامرٍ رضي الله عنه كما عند الرُّويانيِّ، وشعيبٌ روى عنه جمعٌ، وذكره ابن حِبَّان في"الثِّقات"؛ فمثله يُحسَّن حديثه. ويرويه ـ أيضًا ـ عن مِشرح بن هاعان، عن عقبة كما عند الطَّبرانيِّ والجماليِّ، وهو مختلفٌ فيه، والرَّاجح الضَّعف، وقد تُوبع بشعيبٍ.
وجاء بلفظ الماء بدل اللَّبن، أخرجه الفِريابيُّ في "فضائل القرآن" (ج1ـ 109) ط/ مكتبة الرشد بالرِّياض، والمُستغفريُّ  في "فضائل القرآن" (ج1ـ 8) ط/ دار ابن حزمٍ، قال الشَّيخ الألبانيُّ رحمه الله في "الصَّحيحة" (ج4 ص507) ط/ مكتبة المعارف بالرِّياض، بعد أن أورده مِن طريق الفِريابيِّ: "وهذا إسنادٌ حسنٌ، رجاله كُلُّهم ثقاتٌ، رجال الشَّيخين غير مِشرح بن هاعان، قال ابن مَعينٍ: "ثقةٌ" وقال ابن عَديِّ: "أرجو أنَّه لا بأس". وتناقض فيه ابن حِبَّان فأورده في "الثِّقات" ثُمَّ أورده في "الضُّعفاء" ! فهو حَسن الحديث". اهـ وفي إسناده: مَيمون بن الأصبغ مجهول حالٍ، روى له النَّسائيُّ، وتابعه هاشم بن يونس القصَّار عند المُستغفريِّ، وهو مجهول حالٍ أيضًا، وقد خولفا في اللَّفظ مِن طرف يحيى بن أيُّوب العلَّاف عند الطَّبرانيِّ والجماليِّ، ومحمَّد بن إسحاق الصَّاغانيِّ عند الرُّويانيِّ، وهما أوثق منهما. ونافع بن يزيدٍ المِصريُّ أخرج له البُخاريُّ تعليقًا، وبكر بن عمرٍو المَعافريُّ تقدَّم الكلام فيه، أخرج له البُخاريُّ  حديثًا واحدًا في الشَّواهد، وقد أخطأ صاحبا "تحرير تقريب التَّهذيب" حينما عداه في المُتابعات؛ لأنَّ المتابعة تكون في السَّند، والشَّاهد يكون في المتن كما في هذا الحديث (1). ومِشرح ضعيفٌ في الحِفظ، وكلام ابن عديٍّ فيه لا يقتضي تعديلًا، وأمَّا ابن حِبَّان فالعُمدة على ما في كتاب"الضُّعفاء" ومِمن ضعَّفه ـ أيضًا ـ الدَّارميُّ رحمه الله حيث قال: "ليس بذاك وهو صدوقٌ". اهـ يعني لا يَتعمَّد الكذب، كما هي عبارة ابن عديٍّ وقال الحافظ في "التًّقريب" (6679 ص753) ط/ مؤسَّسة الرِّسالة: " مقبولٌ". اهـ يعني في الشَّواهد والمُتابعات. وبالتَّالي يتَّضح أنَّ في عبارة الشَّيخ الألبانيِّ رحمه الله توسُّعًا غير مَرضيٍّ.
وفي هذا المِضمار، وقَفت على كلامٍ لعبد الله بن فهدٍ الخليفيِّ في مُدوَّنته، رجَّح فيه طريق مِشرح بن هاعان؛ لرواية الأكثر لها على حدِّ زعمه. لكن فاته أنَّ طريق شعيب بن زُرعة التي أخرجها الرُّويانيُّ قوِّية لذاتها؛ لأنَّها مِن رواية جبل الحِفط محمَّد بن إسحاق الصَّغانيِّ. ورواية غيره تتقوَّى لغيرها، والذي يَظهر هو تكافؤ الطُّرق، لكن تبقى المخالفة في اللَّفظ فقط . والصَّحيح أنَّ في هذا الحديث لبكر بن عمرٍو شيخان، والله تعالى أعلم.
والحديث وإن كان ضعيفًا، لكنَّ معناه صحيحٌ، لوجود هاته الفئة في أمَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وعلى أله وسلَّم، وقد ألَّف علماؤنا في بدع القُرَّاء.
ختامًا أحمد الله على نِعمة الإسلام والسُّنَّة، ونِعمة دراسة حديث نبيِّه الكريم، عليه وعلى آله أزكى الصَّلاة وأفضل التَّسليم. وتمييز ما صحَّ منه من السَّقيم، فهو الهادي وحده إلى الصِّراط المستقيم، والحمد لله أوَّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا.
           كتبه أبو عبد الله إبراهيم بن خالدٍ التِّبسيُّ الجزائريُّ
       تمَّ الفراغ منه صبيحة الجمعة 3 ربيعٍ الثَّانيِّ 1444 هِجريٍّ
                           في الرَّباح وادي سوف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صحيح البُخاريِّ ـ فتحٌ ـ (ج8ـ 4514 ـ 4650) ط/ دار الفيحاء