الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

التنبيه على أن التقريربمنزلة القول والفعل في وجوب الحكم بالظاهر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد
فقد فاتني التنبيه على أن التقرير بمنزلة القول والفعل، في وجوب الحكم بالظاهر، عند نقلي لكلام الشيخ سعيد دعاس- رحمه الله- في مقالي الإيضاح والبيان.
والتقرير هو ترك الإنكار على القائل والفاعل، قال عبد الله بن صالح الفوزان في شرح تيسير الوصول إلى قواعد الأصول ومعاقد الفصول (ص95): قوله: "وهو ترك الإنكار على فعل الفاعل" هذا تعريف التقرير، والتعريف بترك الإنكار أولى من تعريفه بالسكوت عن الإنكار؛ لأنه قد يسكت عن الإنكار باللسان، ولكن يغيره بيده، كما أدار ابن عباس- رضي الله عنهما- عندما قام في الصلاة عن يساره فأقامه عن يمينه.( 1)
ورأى رجلان يطوفان بالبيت وبينهما زمام فقطعه.( 2) اهـ
وما ذكره المصنف وتابعه عليه الشارح فيه نظر؛ لأن عدم الإنكار لا يختص بالفعل فقط، بل هو شامل للفعل والقول، وقد جاءت بذلك أدلة منها: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.( 3) عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: جاء حَبرٌ منَ الأحبارِ إلى رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: يا محمدُ، إنا نَجِدُ: أنَّ اللهَ يَجعَلُ السماواتِ على إصبَعٍ والأرَضينَ على إصبَعٍ، والشجرَ على إصبَعٍ، والماءَ والثَّرى على إصبَعٍ، وسائرَ الخلائقِ على إصبَعٍ، فيقولُ أنا المَلِكُ، فضحِك النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى بدَتْ نَواجِذُه تَصديقًا لقولِ الحَبرِ، ثم قرَأ رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-:  }وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{.[الزمر: 67].
قال النووي- رحمه الله- في شرح صحيح مسلم (ج17 ص 140-141): ظاهر الحديث أن النبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- صدق الحبر في قوله إن الله يقبض السماوات والأرضين والمخلوقات بالأصابع، ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول قال القاضي: وقال بعض المتكلمين، ليس ضحكه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وتعجبه وتلاوته للآية تصديقا للحبر، بل هو ردٌّ لقوله، وإنكار وتعجبُّ من سوء اعتقاده، فإن مذهب اليهود التجسيم ففهم منه ذلك، وقوله "تصديقا له" إنما هو من كلام الراوي على ما فهم، والأول أظهر. اهـ
وقال الشيخ الفوزان- حفظه الله- في الملخص في شرح كتاب التوحيد (ص353): ذكر عالم من علماء اليهود للنبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مَا يَجدُونه في كتابهم التوراة من بيان عظمة الله، وصغر المخلوقات بالنسبة إليه سبحانه وأنه يضعها على أصابعه، فوافقه النبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، وسر به وتلى ما يصدقه من القرآن الكريم الذي أنزله الله عليه. اهـ
وما روياه( 4) عن أبي سعيد الخذري- رضي الله عنه- عن النبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: (تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفّؤُهَا الْجَبّارُ بِيدهِ كما يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ في السّفَرِ، نُزُلًا لأَهْلِ الجَنّةِ). فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: بَارَكَ الرّحمنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلاَ أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الجَنّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: (بَلَى). قالَ: تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً، كَمَا قالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ النّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْنَا ثُمّ ضَحِكَ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمّ قالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ قالَ: إِدَامُهُمْ بَالاَمٌ وَنُونٌ، قالُوا: وَمَا هذَا قالَ: ثَوْرٌ وَنُونٌ، يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا.
وإلى هذا ذهب الشوكاني- رحمه الله- في إرشاد الفحول (ص81) طبعة دار الفكر ولكن ينتقد عليه قوله "أو سكت عن إنكار فعلٍ فعلَ بين يديه أو في عصره وعلم به فإن ذلك يدل على الجواز" لأنه قد يسكتُ عن الفعل ويغيره بيده كما تقدم.
وقد دل على أن التقرير في معنى القول والفعل، قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ} [النساء: 140].
قال ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره (ج2 ص248) عند هذه الآية: أي: إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه.
فلهذا قال تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ} أي: في المأثم كما جاء في الحديث: (َمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَلاَ يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ).(5 ) اهـ
ومفهوم حديث أبي سعيد الخذري مرفوعا: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَانِ).( 6)
لأن الذي يستطيع تغيير المنكر بيده أو لسانه، ثم يترك ذلك يعتبر مقرا، وأما مرتبة القلب فلا يعذر فيها أحد. 
وما جاء عند أبي دواد( 7)، عن العرس ابن عميرة الكندي، عن النبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: (ذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ، كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - وَقَالَ مَرَّةً: (أَنْكَرَهَا) - كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا، كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا).
قال ابن رجب- رحمه الله- في جامع العلوم والحكم(ص601): "فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عَجَزَ عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكارُ الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال". اهـ
وتقرير غير النبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ليس كتقريره؛ لأن من خصائصه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، أن وجوب إنكار المنكر لا يسقط عنه بالخوف على نفسه، لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ} [المائدة: 67]( 8).
فقد يترك غيره الإنكار لعدم قدرته على تغيير المنكر، فإذا تبين ذلك بقرائنه، فإنه يستثنى من الحكم عليه.
هذا ما تيسر لي بيانه، وأرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت فيه وهو حسبي ونعم الوكيل.

كتبه أبو عبد الله التبسي الجزائري تم الفراغ منه ليلة الخميس 14 صفر 1437 هجري في الرباح وادي سوف.  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخاري- فتح- (ج1-117-138-183)، و(ج2-697-698-699-726-728-859)، و(ج3-1198) بدون ذكر التحويل، و(ج8- 4569-4570-4571-4572) وليس فيه ذكر التحويل من اليسار إلى اليمين، و(ج10-5919-6215) وليس في الأخير ذكر التحويل، و(ج11- 6316)، و(ج13-7452)، وليس فيه ذكر التحويل، ومسلم – نووي- (ج6-763) وغيرهما.
2- أخرجه البخاري- فتح- (ج3-1620-1621 مختصرا)، و(ج11- 6702 مختصرا- 6703).
3- أخرجه البخاري- فتح- (ج8- 4811)، و(ج13- 7414-7415-7451-7515)، ومسلم – نووي- (ج17- 2716).
4- أخرجه البخاري- فتح- (ج11- 6520)، ومسلم – نووي- (ج17- 2792) وعنده (يَكْفَؤُهَا).
5-  طرف حديث أخرجه الترمذي- تحفة- (ج2- 2801)، وأبو يعلى (1925 الشاملة)، والطبراني في الأوسط (588 الشاملة)، من طريق طاووس عن جابر وفيه ليث بن أبي سليم قال الحافظ في التقريب (ص649 رقم 5685): "صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك". اهـ 
والدارمي (2137 الشاملة)، والحاكم في المستدرك (7779 الشاملة) من طريق أبي الزبير عن جابر، وأبو الزبير مدلس قال الشيخ يحي- حفظه الله- في أحكام الجمعة (ص 52): "وعنعنة أبي الزبير لا تقبل إلا إذا روى عنه الليث أو كانت في صحيح مسلم". اهـ
ووهم الشيخ الألباني- رحمه الله- في عزوه لطريق أبي الزبير عن جابر في آداب الزفاف (ص 139) للترمذي وأحمد؛ لأنه عند الترمذي من طريق طاووس عن جابر وعند أحمد عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، وأخرجه أحمد في المسند(125) عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، وفيه قاص الأجناد مجهول، وأخرجه أبو داود (3774)، والحاكم في المستدرك (7171 الشاملة) عن ابن عمر- رضي الله عنهما-، وفيه جعفر بن برقان، قال ابن رجب- رحمه الله- في شرح علل الترمذي (ص249): ثقة مشهور لكن حديثه عن الزهري خاصة مضطرب. اهـ
قلت: وهذا منه. 
وأخرجه أبو داود (3775)، عن جعفر بلاغا عن الزهري به، وبهذه الطرق يثبت الحديث والله تعالى أعلم.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (ج2 ص2103) يعني: وإن لم يشرب معهم كأنه تقرير على منكر.
6- أخرجه مسلم- نووي- (ج2- 49).
7- أخرجه أبو داود (4345) موصولا، و(4346) مرسلا، وحسنه الشيخ الألباني- رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود، كما في شرح الأربعين النووية لصالح آل الشيخ (ص239)، وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ (مَنْ حَضِرَ مَعْصِيَّةً فَكَرِهَهَا، فَكَأَنَّهُ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَأَحَبَّهَا، فَكَأَنَّهُ حَضَرَهَا) أخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (119 الشاملة)، قال ابن رجب- رحمه الله- في جامع العلوم والحكم (ص601): وهذا مثل الذي قبله يقصد حديث العرس ابن عميرة- رضي الله عنه-، وقال المحقق طارق بن عوض الله بن محمد: وكذا أخرجه بن عدي (7/230)، والبيهقي (7/266) من طريق يحي بن أبي سليمان، عن المقبري عن أبي هريرة، وقال البيهقي: تفرد به يحي بن أبي سليمان وليس بالقوي. اهـ
وقد أخطأ المحقق في تضعيف حديث العرس بن عميرة، بسبب المغيرة بن زياد الموصلي؛ لأنه ضعيف، والصواب، أنه صدوق وثقه جمع من الأئمة كوكيع، وابن معين، والعجلي، وابن عمار الموصلي، ويعقوب بن سفيان، كما في تحرير تقريب التهذيب (ص769)، وقال الحافظ في التقريب (ص769 رقم 6834): "صدوق له أوهام". اهـ
وأيا كان فالحديث ثابت يشهد له حديث أبي هريرة.
وكذا بما رواه أحمد في المسند(17872-17877)، عن عدي بن عميرة والد العرس مرفوعا بلفظ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ، فَلَا يُنْكِرُونَهُ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ)؛ لأن سيف بن أبي سليمان خالف فيه المغيرة، والذي يظهر أن هذا الحديث حديثا آخر؛ لأن مفهوم الحديث الأول في حكم مرتكب المنكر ومقره وهذا في الجزاء، وهو من مسند عدي بن عميرة والد العرس، وذكر ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره (ج3ص107): أن أبا داود تفرد بحديث العرس بن عميرة، والله تعالى أعلم.
8- معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، لمحمد بن حسين بن حسن الجيزاني (ص133)، وإرشاد الفحول للشوكاني- رحمه الله- (ص82) وذكر الخلاف في ذلك.

والتنبيه بصيغة pdf من هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق