بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين،والعاقبة للمتقين،ولا عدوان إلا على الظالمين،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أمَّا بَعْدُ
فقد وقَفت على كلمةٍ للمدعو سعيد باسلامة،ألقاها في دار الحديث بالحامي،بتاريخ 4 رجب سنة 1483 هجري،وهي منشورةٌ في منتديات الحامي،بتاريخ 5 رجب سنة 1438 هجري.
تكلم فيها على محدثات شهر رجب،لكنه أتَى في آخرها بالعجب،أثنى على خالد بن عَبُّودٍ الحضرمي،وذكَر أنه بَشرٌ يصيب ويخطىء،وأنه يحكم بما ظهَر له،وذكر دليلاً مِنَ السُنَّة على الحُكم بالظاهر.
ثُم قال : إنَّ الطاعنين في دار الحديث بالحامي،حقيقة أمرهم الطعن في الشيخ يحي - حفظه الله - واستلزم أنَّ الطعن في خالد بن عَبُّودٍ،يعني كذلك الطعن في الشيخ مقبل - رحمه الله - بمعنى أنَّ مَن طعَن في أبي بلالٍ،طعَن في الشيخ يحي،ومَن طعَن في الشيخ يحي،طعَن في الشيخ مقبل،إذًا الطعن في أبي بلالٍ طعَنٌ في الشيخ مقبلٍ.
ثُم قال : الأيام هي هي،والأفراد هُم هُم،والدعوة هي هي،مَن الذي تغير ومَن الذي تنكر.
ثُم قال : هذه الأمور التي تحصل خطيرةٌ،مراجعنا مازالت موجودةً،الشيخ يحي - حفظه الله - موجودٌ يسأل فيما أَشكل،ممَن لا يرتضون بفلانٍ أو فلانٍ على حَد زعمهم الذي يظهرون .
ثم قال : بالله عليكم أيهم أسلم،مَن يخوض في النوازل دون مرجعٍ علميٍّ،أم مَن يخوض في النوازل والمرجع العلمي موجودٌ،واستدل بقول الله تعالى :{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } .اهـ بتصرف
وفي طيات هذا الكلام أباطيلٌ،سيأتي تفنيدها بحول الله وقوَّته،فأقول مستعينًا بالله.
1 ـ لقَد أجمل الرجُّل النقاط المنتقدة على خالد بن عَبُّودٍ الحضرمي،وكان عليه أن يفَصل ويبين المواضع التي حكم فيها أبو بلالٍ بالظاهر؛لأنَّ هذه النقاط موضع انتقاد،وإلاجمال في موضع التفصيل منتقدٌ.ولعل الحامل له على ذلك هو التملص؛لأنه وجَد أنَّ تلك المآخذ قوية،ولا جواب عنده،أو خَشي أن يفتضح أمره إن استرسل في الدفاع عنه،فآثر الإجمال؛كي يتفلت ويضَخم الأمر شأنه شأن أَهل الأهواء،وقد ذَم أهل العلم هذا السبيل وبينوا عواره،وإليك أقوال بعضهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى"(12/ 114)،كما في"تنزيه السلفية" ط/مكتبة دار الحديث بدماج،للشيخ سعيد ـ رحمه الله ـ (ص7):"فإنَّ كثيرًا مِن نِزاعِ الناسِ سبَبُهُ ألفاظٌ مجملةٌ".اهـ
وقال في"الاستقامة"(2/ 522)،كما في المصدر السابق:"هذه العبارة - يعني : المجملة - إذا عنَى بها المتكلم معنىً صحيحًا،وهو يعْلم أنَّ المستمعَ يفهمُ منها معنىً فاسدًا،لم يكن لهُ أن يُطلِقها،لما فيه مِنَ التلبيس،إذ المقصودُ مِنَ الكلام البيان،دون التلبيسِ".اهـونقل العلامة البقاعيُّ في"مَصرعِ التَّصوُّفِ"(ص138)،كما في المصدر السابق(ص6)،عن الإمام أبي عليٍّ ابن خليلٍ السكوني،أنه قال : "وكلُّ كلامٍ،وإطلاقٍ يوهمُ الباطلَ،فهو باطلٌ بالإجماعِ،فأحرى،وأولى بطلانه إذا كان صريحًا في الباطل".اهـ
وقال الشيخ سعيد ـ رحمه الله ـ :"ولذا عدَّ أهْل العلم العبارات والألفاظَ المجملة،المحتملةِ،مِن أساليب أهْل الأهواء،ومِن أسباب الخلاف والضلال".اهـ
والذي يظهر أنَّ خالد بن عَبُّودٍ،يحْكم بخلاف الظاهر إذا كان له هوىً في ذلك،تقليدًا للشيخ يحي ـ حفظه الله ـ ،وهذا بحسب ما وقَفت عليه،وإليك التفصيل.
عندما تكَلم في صوتيته،ترْك الخوض في مسائل الإيمان،كان يعَرض بيوسف بن العيد العنابي؛لأنَّ مُؤدى الخوض في هذه المسائل على غير طريقة أهْل العلم،هو الغلو والتكفير،كما هو ملاحظٌ مِن حال يوسف،مع أنَّ أبا بلالٍ نفسه لم يسلك فيها سبيل العلماء،فزَهَّد في دراستها وبيان الراجح مِنَ المرجوح فيها.
وقد رَد عليه أخونا العربي البسكري،في "توضيح المقال" فجزاه الله خيرًا.
ومع ما يعلمه مِن حال يوسف في دار الحديث بدماج،وما يُنتقد عليه مِن انحرافات،بنَى على أخبار بعض أتباعه،ووجَّه نصيحةً لدولة الجزائر،وقد يكون الأمر الذي نقِل إليه مكذوبًا،مخالفًا بذلك قول الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
قال ابن كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في تفسيره (ج7ص236)ط/دار ابن الجوزي:"يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون ـ في نفس الأمر ـ كاذبًا أو مخطئًا،فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه،وقد نهى اللّه عن اتباع سبيل المفسدين،ومِن هاهنا امتنع طوائفٌ مِن العلماء مِن قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر،وقبلها آخرون لأنَّا إنَّما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق،وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال .
وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم مِن شرْح البخاري،ولله الحمد والمنة ".اهـ
وهناك أمرٌ ثانٍ وهو عندما حدَثت الفتنة في السودان،اتصل به الشيخ وليد بن فضل المولى الخالدي - حفظه الله - ،وأخبره بأخطاء عبد الكريم الحجوري - هداه الله -،فقال له أبو بلالٍ : "إنَّ الذي أرسله دعوةً إلى السودان غَشَّ الإخوة "،أخبرني بذلك أخونا العربي عن إهاب السوداني عن أبي عكرمة.
وعندما خاض طلابه في ذلك،ألقى كلمةً،ذكر فيها أنَّ أَمر هذا النزاع غامضٌ،وأنه لا يدخل تحت رايةٍ عمية،لكن سرعان ما سحَب كلمته تلك تقليدًا للشيخ يحي،والكلمة موجودةٌ عندي.
فهل يعقل بعد هذا أن يقال أنه اجتهد فاخطأ أو أصاب؟! أو حكَم بالظاهر؟! أم أنه تعَمد الخطأ؟!.هذه أمثلةٌ مِن حكم أبي بلالٍ بالظاهر،أضعها بين يدي القارئ الكريم،خاصة ونحن في زمنٍ كثر فيه تقليب الحقائق،والله المستعان.
2 ـ وأمَّا استلزامك أنَّ الطعن في خالد بن عَبُّود الحضرمي طعنٌ في الشيخ يحي،والطعن في الشيخ يحي،طعنٌ في الشيخ مقبلٍ - رحمه الله -،وأنَّ الطعن في أبي بلالٍ،طعنٌ في الشيخ مقبلٍ،ليس بلازمٍ؛لأنَّ خالد بن عَبُّود الحضرمي،ليس على طريقة الشيخين،فهو داعيةٌ إلى التقليد،والتميع،وتقليب الحقائق،والكذب،مع الجهل المركب.
الشيخ مقبلٍ - رحمه الله - كان يقول:"لا يقلدني إلا ساقطٌ"،ونقَل ابن عبد البر - رحمه الله - الإجماع على أنَّ المقلد ليس مِن أهْل العلم.
وتقليد أبي بلالٍ للشيخ يحي،ليس بخافٍ على مَن بصره الله،تجده يَتكلم في الشخص،ثُم يَسحب كلامه لا لشيءٍ إلا،أنَّ الشيخ يحي يخالفه.
وقد تقدم سحبه لكلامه على فتنة السودان،وسحَب كلامه في الغرباني،وفي الشاعر باغوث،ويَسحب كلامه،بدون بيان السبب،ويترك النَّاس في حيص بيص.وقد كان هو في شق،والشيخ يحي في شق،في دار الحديث بدماج،ولم يكن على منهجه،وقد كان يطعن في المُحقين الذين زكاهم الشيخ يحي،ويدافع عن المبطلين.
فأين هو مِن منهج الشيخ يحي،القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فقد أنكر على الشيخ مقبلٍ - رحمه الله -،عدَم تحريمه للقات،ولم يسكت عن ضلالات أبي الحسن المأربي،بالرغم مِن طلب بعض العلماء منه السكوت،وكذا تصدى لمخالفات الحزب العدني،رغم التخذيل الواضح،حتى مٍن بعض الكبار.
وأمَّا أبو بلالٍ فيريد أن يكون التلميذ مع شيخه،كالميت بين يدي مُغسله.وهذا الكلام إلى وقتٍ قريبٍ،أمَّا الآن فالشيخ يحي - وفقه الله -،نلحظ منه تغيرًا وتراجعًا عما كان عليه قبْل،ويَشهد لذلك طريقة معالجته لبعض الفتن الدائرة حاليا في الساحة.
مثال ذلك : ما حدَث بين الإخوة السودانيين،والشيخ أبي عمرو الحجوري - هداه الله -،مع أنَّ الشيخ يحي لا ينكر شيئًا،ممَّا أتى به الإخوة،مِنَ البراهين على حزبية أبي عمرٍو،لكنه يهون مِن شأن هذه الأخطاء،مع أنه حزَّب بعضهم بأقل مِن هذا.
وكذا أخطأ جدًّا في تزكيته ليوسف العنابي الكذاب الغالي،مع قيام البراهين والحُجج على انحرافه.
وقد أَرسل إليه أخونا العربي البسكري نصيحةً،وإلى الآن لم نجد منه ردًّا.
3 ـ وقولك : "الدعوة هي هي،والأفراد هُم هُم،مَنِ الذي تغير،ومَنِ الذي تنكر"،مغالطةٌ واضحةٌ،التغير حاصلٌ،والضعف موجودٌ،والشيخ يحي نفسه مقرٌ بذلك،لكنه اضطرب،كما بينت ذلك في الرد على العُمَري.
وهل يَرضى الشيخ مقبلٍ - رحمه الله -،بالتقليد والتحجير على طلبة العلم،وبالتأصيلات الفاسدة،التي تشبه تأصيلات المأربي،والحلبي،والإمام؟.
4 - وأمَّا دندنتك حول المرجعية،فشنشنة أعرفها مِن أخزم،وهذا يذكرني بمقولة أصحاب الحزب العدني،خلونا مع الأكابر،لما يعلمون مِن كون هؤلاء الذين يحيلون إليهم،معهم ويدورون في فلَكهم.
فهل قبَل أهل السُنَّة تزكية الشيخ عبد المحسن العباد - حفظه الله -،لأبي الحسن المأربي؟،وهل قبلوا تزكية الشيخ ربيع للحزب العدني؟،حتى تلزمني أنت بقبول تزكية الشيخ يحي لأبي بلالٍ،بحجة المرجعية،أم أنَّ المرجعية عندكم فوق الحقائق العلمية؟.
فأفيدك أنَّ المرجعية لكتاب الله تعالى،ولسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ولأهل العلم،فيما وافقوا فيه هذين الأصلين.
كما دلنا على ذلك قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[النساء: 59].
وسبب نزولها،ما أخرجه الإمام البخاري - فتح- (ج 8-4340)،و(ج 13-7145-7257)،عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : بَعَثَ النَّبِيُّ ـ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ فَقَالَ : أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ تُطِيعُونِي ؟ قَالُوا : بَلَى قَالَ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا،فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا. فَقَالَ : ادْخُلُوهَا،فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا ،وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ النَّارِ،فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ،فَبَلَغَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ).
ذهَب الإمام الوادعي - رحمه الله - في"الصحيح المسند مِن أسباب النزول"(ص78-79)ط/دار الامام مالك،إلى أنه عبد الله بن حذافة السَّهمي بن قيس بن عدي؛لحديث عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنها - عند البخاري - فتح -(ج 8- 4584)،
وذهَب الحافظ في"الفتح"(ج8ص73-74)إلى تعدد القصة،وأنَّ الأنصاري غير السهمي؛بسبب اختلاف السياق،واسم الأمير،وسبب الأمر بالدخول إلى النار،وذكرأنَّ ابن القيم - رحمه الله - قال بالتعدد،وخلاف ابن الجوزي - رحمه الله - في ذلك.
وهنا أمرٌ ينبغي التنبيه عليه،وهو : أنه يجب التفريق بين الرجوع إلى العلماء،وسؤلهم عمَّا أَشكل،والاستفادة منهم،وبين التعصب لهم،ومتابعة أخطائهم،وهذا الأخير هو مبتغى القوم،وبالتالي يتضح أنها كلمة حقٍّ أريد بها باطلٌ.
ومع ذلك فقد رجَع الإخوة السودانيين،للشيخ يحي - وفقه الله - فهل انصفهم؟!،مع اعترافه بما يُنسب لعبد الكريم الحجوري،فهل تريد أنت وشيخك خالد بن عَبُّود،متابعة الشيخ يحي على خطئه،وهذا أصلٌ مِنَ الأصول المخترعة؛لحماية أنفسكم مِنَ النقد.
ويبعُد مِنَ الشيخ يحي،إنكار ما يُنسب إلى طلابه،إذا كان مدعمًّا بالحجج والبراهين،لكنه يُهِّون مِن شأن تلك الأخطاء؛ممَّايسبب ضياع الحق وانطماسه،والله المستعان.
5 - وأمَّا خلطك تبعًا لشيخك خالدٍ،بين النوازل ومسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فهو مشاقة للرسول،ومخالفة لسبيل المؤمنين،الذين أمِرنا باتباعهم في قوله تعالى :{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء : 115].
فلا يكفي أن تأتي بآيات وأحاديث،وتسلط عليها فهمك السقيم،إنَّما المعتبر في ذلك فهم السَّلف.
واستدلالك بقوله عزَّ وجلَّ : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}الآية [النساء : 83]،حُجة عليك لا لك،فليس في الآية،أنه يَحرم على طالب العلم الخوض في مسائل الجرح والتعديل،قال ابن كثير رحمه لله في تفسيره (ج2ص237) : "وقوله : { وإذا جاءهم أمر مِنَ الأمن أو الخوف أذاعوا به} إنكارٌ على مَن يبادر إلى الأمور قبل تحققها،فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحةٌ".اهـ
وسبب نزولها ما أخرجه الإمام مسلم - نووي - (ج10ـ 1479)،عن عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه ـ قال : لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نِسَاءَهُ قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ،فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَىٰ وَيَقُولُونَ : طَلَّقَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نِسَاءَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ ـ قَالَ عُمَرُـ فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ ـ قَالَ ـ فَدَخَلْتُ عَلَىٰ عَائِشَةَ،فَقُلْتُ : يَا بنتَ أبي بَكْرٍ!أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟فَقَالَتْ : مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَىٰ حَفْصَةَ بنتِ عُمَرَ،فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ!أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَا يُحِبُّكِ،وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ،فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟قَالَتْ: هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ،فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَاعِدًا عَلَىٰ أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ،مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَىٰ نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ،وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَىٰ عَلَيْهِ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَيَنْحَدِرُ،فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ!اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَىٰ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَىٰ الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا،ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ!اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَىٰ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَىٰ الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا،ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ!اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَىٰ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ،وَاللَّهِ!لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي،فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ ارْقَهْ،فَدَخَلْتُ عَلَىٰ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَىٰ حَصِيرٍ فَجَلَسْتُ،فَأَدْنَىٰ عَلَيْهِ إِزَارَهُ،وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ،وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ،فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ،وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ،وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، ـ قَالَ ـ : فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ. قَالَ:(مَا يُبْكِيكَ؟يَا ابْنَ الْخَطَّابِ!)قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله!وَمَا لِي لَا أَبْكِي؟وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ،وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَىٰ فِيهَا إِلَّا مَا أَرَىٰ،وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَىٰ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ،وَأَنْتَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَصَفْوَتُهُ،وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ. فَقَالَ:(يَا ابْنَ الْخَطَّابِ!أَلَا تَرْضَىٰ أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا؟) قُلْتُ : بَلَىٰ. قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَىٰ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ،فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله!مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ!فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ الله مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ،وَأَنَا وَأبو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُون َمَعَكَ،وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ – وَأَحْمَدُ الله- بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ الله يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ. وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ : {عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}[التحريم: 5]{وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ}[التحريم: 4] وَكَانَتْ عَائِشَةُ بنتُ أبي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَىٰ سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله!أَطَلَّقْتَهُنَّ؟،قَالَ : (لَا) قُلْتُ : يَا رَسُولَ الله!إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُون َ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَىٰ،يَقُولُونَ : طَلَّقَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نِسَاءَهُ،أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟قَالَ : (نَعَمْ إِنْ شِئْتَ) فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّىٰ تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ،وَحَتَّىٰ كَشَرَ فَضَحِكَ،وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا،ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ،وَنَزَلَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَىٰ الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ،فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ الله إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ. قَالَ : (إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ) فَقُمْتُ عَلَىٰ بَابِ الْمَسْجِدِ،فَنَادَيْتُ بِأَعْلَىٰ صَوْتِي : لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ }[النساء : 83] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ،وَأَنْزَلَ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ آيَةَ التَّخْيِيرِ.
وعُمَر - رضي الله عنه - هو القائل للرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في حق حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - دعني اضرب عنق هذا المنافق.
فأحال في الحد للنبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم - ولم يُحل في الحكم على هذا الصحابي بما يقتضيه ظاهره،مع وجود الداعي إلى ذلك،فعُلم أنَّ هاته غير تلك،وأنَّ مِنَ الأمور ما يجوز البت فيه لمن يحسِن ذلك.
وقد وقَفت على كلامٍ نفيسٍ،للشيخ سعيد بن دعَّاس ـ رحمه الله ـ يَصُب في هذا المصب،في"ضرورة التأهل في الحكم على المخالف بما يستحق والرد على أهْل الأهواء"،المطبوع بذيل"ضوابط الحكم بالابتداع"،ط/ مكتبة دار الحديث بدماج(ص156-160).
وهذا كلامه - رحمه الله - : "ولهذا كانتْ الحُدودُ والقِصاصُ فِي زمَن النَّبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ وخُلفَاءِه،لَم تَكُن تُقام وتُستَوفَى إلا بإذنِهم،كمَا ذكَرَه الإمام يحيى بنُ أبي الخيرِ العِمراني الشَّافعيُّ في "البيان"(12 / 376)،والشيرازي في "المهذب"،كمَا في "المَجمُوع" (25 / 116).
فكانَ الناسُ يُحِيلونُ إقامةِ الحُدودِ والقِصاصِ إلى ولاةِ الأُمورِ ونوَّابِهم،ويأتُونَ بِها إليهم،كما كانُوا يأتونَ بالصَّحابيِّ المُلقَّبِ بحِمارِ إلى النبيِّ ـ صلى الله عليهِ وسلم ـ مراتٍ مُتعَدِّدةٍ،وحينَ زنَى ماعزٌ والغَامِديَّةُ جاءا إلى النبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلم ـ،ولم يوسِّدا إقامةَ الحَدِّ – المَعلومُ - علَيهِما إلى أحدٍ سوى النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كما جاءَ ذلكَ الرَّجلُ بقاتلِ أخيهِ يَقُودُه إلى النبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمـ،حتَّى أذنَ لهُ النَّبيُّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ باستيفاءِ القصَاصِ مِن قاتلِ أخيِه،وعلى هذَا مَضى الأمرُ في زمانِ الخَلفاءِ،ولم يَنتَصبْ أحدٌ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ لإقامةِ شيئٍ مِن ذلكَ.
بخِلافِ الحُكمِ على المُخالفِ بِما يستَحقُّ،فقَد كانُوا يَفَعَلونَهُ مِن غيرِ إحالةٍ إلى ولاةِ الأمورِ،وأوضحُ دليلٍ على هذا،أنَّ عمرَ وخالداً ـ رضي اللهُ عنهُما ـ حينَ طعَنَ ذو الخُويصرة الخَارِجيُّ في النبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ بَادَرا بالحُكمِ عليهِ بالنِّفاقِ بِحضرةِ النَّبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلمَ ـ،ولم يُحجِما عن الحُكم عليهِ بما تقتَضِيهِ جِنايَتُه،واستئذناهُ في إقامةَ حدِّ الرِّدةِ،وقالَ كلٌّ مُنهما : "دَعني أضربْ عنُقَ هذا المنافقِ يارسولَ اللهِ".
وهكَذا بادرَ عمرُ بنُ الخطَّابِ ـ رضيَ اللهُ عنهُ ـ بالحُكمِ على حاطبِ بنِ أبي بَلتَعةَ بالنِّفاقِ بحضرةِ النبيِّ ـ صَلى اللهُ عليهِ وسَلمَ ـ حينَ راسلَ كفارَ قُريشٍ يخبرُهم بمقدمِ النبيِّ ـ صلى الله عليهِ وسلم ـ لفتحِ مكةَ،بظَاهِر فِعلِهِ،لولا ما أبَانَه مِن عُذرٍ هوَ صادِقٌ فيهِ،وصدَّقَه النبيُّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ عليهِ،وأحدَثَهُ مِن توبةٍ صادقةٍ ناصحَةٍ ـ رضي اللهُ عنهُ ـ وأرضاهُ،ولَم يُحجِم عنِ الحُكمِ بما يقتَضِيهِ فِعلُه مِن حُكمٍ.
قالَ شيخُ الإسلامِ في "الصَّارمِ المسلول" (1 / 40): الإِيمانُ والنِّفاقُ أصلُهُ في القَلبِ،وإنَّما الذي يَظهرُ مِنَ القولِ والفِعلِ فَرعٌ لهُ دَليلٌ عليهِ،- فإِذَا ظَهرَ مِنَ الرَّجلِ شَيءٌ مِن ذَلكَ،ترَتَّبَ الحُكمُ عَليهِ!!-.اهـ
وأمَّا عندَ إقامةِ حَدِّ الرِّدةِ – الذي يستَحقُّه لو ثبتتِ الرِّدةُ،ولمَ يكُن لهُ عُذرٌ فِيما فعَل - فطلبَ الإذنَ مِنَ النبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ ،لأنَّهُ مِن أحكامِ الإمامةِ التي لا يستوفيِها غيرُ الإمامِ إلا بإذن الإمامِ وتوكِيلٍ مِنَ الإمامِ،كما نوَّبَ النبيُّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ أنيساً ـ رضي اللهُ عنهُ ـ في رجمٍ المرأةِ التي زنَت.
وحينَ ذُكرَ مالكُ بنُ الدُّخشُن بحَضرةِ النبيُّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ في عدَدٍ من أصحابهِ،فقالَ قائلٌ مِنهُم : ذلكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،مُستَدِلاً بقولِه : فَإِنَّمَا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ لِلْمُنَافِقِين،فحَكَمَ عليهِ بمُقتَضى فِعلِهِ الظَّاهرِ بحضَرةِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ،وبالدَّليلِ المُعتَبرِ مِن إلحاقِ المرءِ بخلِيلِه وخَدنِه،وبالميلِ والمودَّةِ الدَّالةِ على المُشاكَلةِ والمُقارَبةِ والموافَقةِ،لولا أَن برَّأهُ النبيُّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ بقَولِه : (لاَ تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ أَلاَ تَرَاهُ قَدْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ).
ومَنزلةُ عمرَ بنِ الخطَّاب،وخالدِ بنِ الوليدِ،وهذا الصَّحابيِّ ـ رضي اللهُ عنهم ـ وأرضَاهُم في جَنبِ النبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلمَ ـ، كطَالبِ العلمِ المُتمكِّن البَصيرِ الذِي لا يَخرجُ عَن أهلِ العِلم،بِجانبِ مَن هوَ أعلم منهُ.
ولم ينكرِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ علَيهِم الإقدامَ على إثباتِ الحُكمِ بالدَّليلِ الشَّرعيِّ الظَّاهرِ،بل أقرَّ بعضاً مِن ذلك ولم يُنكرْهُ،كالحُكمِ على ذي الخُويصرةِ.
واستَثبتَ في بعضٍ بسؤالِ المُخالفِ،كالحُكم على حاطب ـ رضي الله عنه ـ ،فانتَفى الحُكمُ لانتفاءِ شَرطِهِ بإبداءِ عذرِهِ وتَوبتِهِ الصَّادقةِ،حينَ قال : "يارسولَ الله لا تعجَل عليَّ،إني كنتُ امرأً مُلصقاً في قُريشٍ ولم أكُن مِن أنفُسِها،وكانَ مَن معكَ مِنَ المُهَاجِرينَ لُهم قرَاباتٌ بمكةَ يَحمُونَ بِها أهلِيهِم،وأموَالهِم،فَأحبَبتُ إذْ فَاتَني ذلكَ مِنَ النَّسبِ فِيهم أنْ أتَّخذَ عِندَهم يَداً يَحمُونَ بهَا قرابَتِي،- ومَا فعلتُ كُفراً ولا ارتِدَاداً،ولا رِضَاً بالكُفرِ بعدَ الإِسلامِ؟!-، فقالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه و سلمَ ـ : (لقَد صَدَقكُم).
ويتَاكَّدُ إقرَارُهُ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ أصلَ الإقدامِ عَلى الحُكم بِدَلِيلٍ وبُرهانٍ واضحٍ لِمن رَزَقهُ اللهُ بَصِيرةً وفَهمَاً وإِن وُجدَ مَن هوَ أعلمُ،أنَّهُ قالَ بَعدَ إبداءِ حَاطِبٍ ـ رَضيَ اللهُ عنهُ ـ عُذرَه : (صَدقَ فَلا تَقُولُوا لهُ إلا خَيراً).
ومَفهُومُه أنَّهُ لَو لَم يكُن له عُذرُ صَادقٌ،فَقُولُوا فيهِ ما يَستَحقُّ مِن وَصفٍ وحُكمٍ.
ونفَى الحُكمَ في حقِّ مالكِ بنِ الدُّخشُن لدليلٍ أرجَح - مؤَيَّداً بالوَحيِ الشَّريفِ - ممَّا استَدلَّ بهِ مَن حَكمَ عليهِ بالنِّفاقِ وهُوَ قولُهُ : (لاَ تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ أَلاَ تَرَاهُ قَدْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ).
وفِي ذلكَ كُلِّهِ لم يُنكرِ النبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ أصلَ الإقدامِ لإثباتِ ما يستَحِقُّهُ المُخالفَ بِما تَقتَضِيهِ مُخالَفتُه مِن قِبَلِ مَن هُوَ أهلٌ لمَعرفتِه وإدرَكِه وإنْ كانَ غَيرُه أعلمُ منهُ،لأنَّ العِبرةَ هوَ التَّأهُّلُ والتَّمكنُ،والفَهمُ والتَّمييزُ والبَصيرةُ.
ولَو كانَ لا يَجوزُ للمُتَأهِّل البَصيرِ المُتمكِّن مِن مَعرفَةِ الحُكم بِدلِيلِه وبُرهانِه ممَّن غَيرُه أعلمُ منهُ،لأَنكرَ النبيُّ ـ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ على هَؤلاءِ أصلَ الإقدامِ على الحُكمِ،لأنَّ تأخيرَ البيانَ عِندَ الحَاجةِ في حَقِّهِ ـ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ لا يَجوزُ،لمُنافَاتِه ما أمرَهُ الله بهِ في قوله : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}،وهو عليهِ الصلاةُ والسَّلام قَد بلَّغَ الرِّسالةِ أتَمَّ بَلاغٍ".اهـ المراد
وبالتالي يتضح،أنكم على منهجٍ غير منهج الإمام الوادعي - رحمه الله - وهو أشبه بمنهج المأربي،والحلبي،والوصابي،والإمام،وحتى إن وافقكم الشيخ يحي على ذلك فهو مخطىءٌ.
وأقول لك : أثبِت العرش ثُم انقش؛لأنَّ هذه المسائل المتنازع فيها،ليست مِن مسائل النوازل،وقد تابعت في هذا التلبيس شيخك أبا بلالٍ،بدون حُجةٍ ولا برهانٍ.
وفي الختام أحمد المولى المنان،هو حسبي وعليه التكلان.
للاستماع أو تنزيل كلمة سعيد باسلامة من هنا
و للاستماع أو تنزيل كلمة أبي بلالٍ من هنا
تم الفراغ منه ليلة السبت 14 شوال عام 1438 هجري كتبه أبو عبد الله إبراهيم بن خالد التبسي الجزائري
في الرباح وادي سوف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق