بِسْمِ اللهِ الَّرحْمـــن الرَّحيـــم
الحمد لله على إحسانه وكرمه وامتنانه، أحمده سبحانه حمدا يليق بجلاله، وأصلي وأسلم على خير خلقه، محمد نبيه وعلى آله وصحبه، وكل من متبع له إلى يوم الدين.
أما بعد
فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]
قال ابن كثير- رحمه الله - في تفسيره (ج3ص253): {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} أي: اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أٌنْزِلَ إليكم من ربِّ كل شيء ومليكه، {وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي: لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره. اهـ المراد.
وعلى هذا سار السلف الصالح- رضوان الله عليهم-، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: "هذا الذي أهلككم،- والله- ما أُرى إلا سَيُعذبكم، إني أحدثكم عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وتجيؤوني بأبي بكر وعمر".( 1)
وقال الإمام أحمد- رحمه الله-: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". اهـ
وهذه بعض أقوال أئمة المذاهب الأربعة، في اتباع السُّنة وترك الأقوال المخالفة لها، ذكرها الشيخ الألباني- رحمه الله- في صفة صلاة النبي (ص41-42) وأنا اقتصر على نقل مثال أو اثنين منها
قال أبو حنيفة- رحمه الله-: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، وقال: "لا يحلُّ لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه"، وفي رواية "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي".
وقال مالك بن أنس- رحمه الله-: "ليس أحد بعد النبي- صلى الله عليه وسلم- إلا ويُؤخذ من قوله ويترك إلا النبي- صلى الله عليه وسلم-".
وقال الشافعي- رحمه الله-: "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها لقول أحد"، وقال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
وقال أحمد بن حنبل- رحمه الله-: "لا تقلدني، ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا"، وقال: "ومن رد حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فهو على شفى هلكة". اهـ
من هذا الباب، أود التنبيه على خطأين صدرا من الشيخ الفوزان- حفظه الله ووفقه- وهي حمل المجمل على المفصل في كلام العلماء، وحصر الجرح والتعديل على الرواة؛ كي لا يكون فيها متعلقا لأهل الصيد في الماء العكر، وأقصد بهم أهل الأهواء قاطبة، وخاصة أصحاب أبي الحسن المأربي، وأصحاب علي حسن الحلبي، وإلى التنبيه على الخطإ الأول.
1) حمل المجمل على المفصل في كلام العلماء
قال الشيخ الفوزان- حفظه الله تعالى-:كما في شريط التوحيدَ يا عباد الله حينما سئل هل يحمل المجمل على المفصل في كلام الناس؟
الأصل أن حمل المجمل على المفصل، الأصل أنه في نصوص الشرع أي الكتاب والسُّنة، لكن مع هذا أيضا يحمل كلام العلماء مجمله على مفصله، ولا يقوَّل العلماء كلاما مجملا حتى يُرجع إلى التفصيل من كلامهم، إذا كان لهم قول مجمل وقول مفصل نرجع إلى القول المفصل ولا نأخذ المجمل. اهـ
وببيان أمرين يتضح خطأ هذا القول.
أ) بيان حمل المجمل على المفصل في كلام العلماء وذكر ما ليس منه
حمل المجمل على المفصل، هو جعل عادة الرجل وسيرته هي المفصل، وأخطاؤه الواضحة هي المجمل، قال الشيخ المجاهد سعيد بن دعاس اليافعي- رحمه الله- في تنزيه السلفية (ص37): وأما ما قرره الشيخُ الإمام- أصلحه الله- في قاعدتيه (كثرة محاسن العالم مانعة من القدح فيه)، (والعبرة بطريقة أهل الاستقامة وسيرتهم لا بهفواتهم وزلاتهم)، من غير تحقيقٍ وتحريرٍ، بإطلاق الحكم في اعتبار الطريقة، وإلغاء اعتبار الخطإ بدعوى )إقامة العدل!!)، فعلى غرارِ قاعدة أبي الحسن، وعرعور في (حمل المجمل على المفصل)، بدعوى الإنصاف!! الذي حقيقته: جعل عادة الرجل، وسيرته هي المفصل، وأخطاؤه وضلالاته، وباطله الواضح في معانيه إما بالنصوص، أو بالظواهر هي المجمل.
ومقصوده: أن يُحكمَ على الإنسان بمقتضى سيرته وعادته، ولا يُلتفت إلى خطإه ومخالفته الواضحة، ويقضى على خطإه ومخالفته- مهما كانت- بعادته وسيرته.
وهذا ما أصَّلهُ الشيخ الإمام- عفا الله عنه- في قاعدتيه، وهو إن لم يصرِّحْ بلفظ قاعدة (المجمل والمفصل) لكن هذا هو حقيقة ما قعَّده، والعبرة بالحقائق، لا بالأسماء. اهـ
وهو ما اعتمده الشيخ الفوزان- وفقه الله-، ويتضح ذلك جليا في التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية (ص44 نسخة مصورة) تعليقا على قول الطحاوي- رحمه الله-: "وتعالى الله عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات".
"والحاصل: أن هذه الألفاظ التي ساقها المصنف فيها إجمال ولكن يحمل كلامه على الحق؛ لأنه- رحمه الله تعالى- من أهل السُّنة والجماعة، ولأنه من أئمة المحدثين فلا يمكن أن يقصد المعاني السيئة، ولكنه يقصد المعاني الصحيحة، وليته فصل ذلك وبينه ولم يجمل هذا الإجمال". اهـ
فاعتبر الطريقة في مقابلة الخطإ؛ لأن الطحاوي- رحمه الله- من أهل السُّنة ومن أئمة المحدثين، وقد وظف أحدهم كلام الشيخ الفوزان السابق، في شريط: التوحيدَ يا عباد الله، للرد على من يقول بحمل المجمل على المفصل في كلام العلماء، فأخطأ لأن كلامه صريح في ذلك.
وليس منه حسن الظن بالعلماء العاملين، المعروفين بالسير على منهج السلف والذب عنه، قال الشيخ سعيد- رحمه الله- في تنزيه السلفية (ص42-43): وليس فيما سلكهُ شيخُ الإسلام، وابن القيم، والذهبي(2)، تجاه من ذكروا وضعُ قاعدةٍ مطَّردةٍ، أنه يُلتَفَتُ عن الخطإ الواضحِ البيِّنِ بالقولِ أو الفعل، بسيرةِ الرَّجُلِ، وطريقِتِهِ، وعادَتِه، كما قال الشيخُ الإمام- عفا الله عنه-، وقبلَهُ أبو الحسن، وإنما المراد حسنُ الظنِّ ببعض الكبار، ممن شهروا بالسير على منهج السلف، ودعوا إلى ذلك، وناظروا عليه، لقرائن عظيمةٍ، وكثيرةٍ، وقويةٍ، كجهادٍ عظيمٍ في نصرةِ السُّنة، والذبِّ عن منهجِ الحقِّ وتقريره، إذا صدر من أحدهم ما يحتمِلُ الباطل ويوهمُهُ، فيُتأوّل على غير المعنى السَّيء- إحسانًا للظنِّ بهم- لا على الإطلاق في كلِّ قولٍ، أو فعلٍ- كالصَّريحِ، أو الظاهر- ولا في كلِّ قائلٍِ، وإنما في أفرادٍ، ممن قويت القرائنُ المسوِّغةُ لإحسان الظنِّ بهم، وفيما قويَ فيه احتمال إرادة المعنى الحقِّ (من باب إحسان الظنِّ؟!)، لا حتمًا، كما هو مُقتضى ما أصَّلهُ الشيخُ الإمام- أصلحه الله- في (قاعدتيه ؟!) على منوالِ قاعدة أبي الحسن في (المجملِ والمفصلِ؟!)- بلا فرق-.
ولذا تكلَمَ أعدادٌ من أهل الحديث والسُّنة في أناسٍ من المنتسبين إلى السُّنة حين صدرَ منهم الخطأ، ولم يعذروهم، ولم يتأولوا لهم، بإحالة الأمر على- عادتهم... وسيرتهم... وكثرة محاسنهم !...
كما لم يعذر الإمام أحمد وغيرُهُ من أهل الحديثِ مئاتَ العلماء في زمنه، مِمَّن وقف في القرآن من المنتسبين إلى السُّنةِ، وأهل الحديث فبدَّعوهم، وضلَّلوهم، وفيهم أناسٌ من كبار المنتسبين إلى السُّنة، وأهل الحديث، مثلُ يعقوبُ بن شيبةَ.
كما شَنَّ جلُّ أهل الحديث الغارةََ على إسماعيل ابن عليَّةَ- وهو من كبار أهل السنُّةِ والحديث- لما قال كلمةً فهم منها أنه يقول بخلق القرآن حتى ضلَّلهُ بعض الأئمةِ، حتى رجع عن قولهِ، ولو لم يرجعْ لأسقطوه.
وشنَّعَ أهل العلم على ابن حبان حين قال: (النبوةُ العلمُ والعمل)، ورموهُ بالزندقةِ، لاحتمالها تقرير اكتساب النبوةِ، على مذهب الفلاسفة، وإن كانت تحتملُ ذكر مهماتِ النبوة، كما حملها الذهبي- إحسانًا للظنِّ به-.
وتكلَّم الإمام أحمدُ وغيرُهُ من أهل العلم- بشدَّةٍ- في داود بن علي الظاهري، والكرابيسي، والمحاسبي، في قضايا القرآن، وفي أبي إسماعيلِ الهروي، لكلامه الموهم لوحدة الوجود، وصوَّبوا إليهم سهام النقدِ اللاذعِ، ولم يفزعوا إلى ما لهم من كثرة المحاسِنِ، وتعداد المآثر، والاستدلال بالسيرة، والطريقة، والعادة العطرة، وقد كانوا في أعالي المنازل العلميَّة والدينيَّة، لأن ابن آدم خطَّاء والحي لا تؤمن فتنته.
ومن دافع من أهل العلم عن واحدٍ منهم وتأوَّل كلامه على معنى صحيحٍ، فجرَى على حسنِ الظنِّ، من غير نكيرٍ ولا لومٍ على من صوَّبَ إليهم النقدَ اللاذعَ، ولا وضَع قاعدةً مطردةً، كما ظنَّ الشيخ الإمام- أصلحه الله-، ولبَّسَ أبو الحسن- أخزاه الله-، حيث أن لهؤلاء الأئمة الذين أحسنوا الظنَّ ببعض من عرف بالسُّنة، وانتهاج المنهج السلفي، والذبِّ عنه، والدعوة إليه نقدٌ لاذعٌ، تجاهَ أناسٍ مشهورون بالعلم، والفقه والدين، بسبب ما لهم من الأخطاء والمخالفات الشرعية، ولم يفزعوا إلى اعتبار هذا المَفزَعِ الخلفيِّ، وقضوا به على المخالفة والخطإ ومن ادَّعاها قاعدةً مطَّردةً فليُبرز دليلها، من كتابٍ، أو سنةٍ، أو منهج السلف، بل هي مخالفة لذلك كلِّه كما رأيت والله أعلم. اهـ
وليس منه كذلك، تتبع أقوالِ العالم ليعرفَ ما استقر عليه رأيه في مسألة ما، وذلك أن الخلاف منه ما هو سائغ، فإذا اجتهد العالم في مسألة ما، وأخطأ ثم رجع إلى القول الراجح، عرفنا ذلك بتتبع أقواله، ومن فائدته الاحتجاج على مقلديه بالصحيح من أقواله، وإذا أخطأ فيما لا يسوغ الخلاف فيه، وجب عليه الرجوع إذا نبه على ذلك أو انتبه، وعليه أن يتوب ويبين ذلك صريحا، عملا بقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160].
وتتم معاملته بالضوابط السابقة التي نقلها الشيخ سعيد- رحمه الله-، عن أهل العلم.
ب) بيان حكم حمل المجمل على المفصل في كلام العلماء
حمل المجمل على المفصل في كلام العلماء، هو منهج مخالف لأصل من أصول الإسلام ألا وهو وجوب الأخذ بالظاهر(3).
قال الشيخ سعيد- رحمه الله- في تنزيه السلفية (ص40): وهذا منهج مخالفٌ لقاعدة الشرع، والأصل الأصيل في الإسلام، وجوبُ الأخذ بالظاهر وامتناع تأويلِ كلام غير المعصوم، لأنه أعني: غير المعصوم مظنَّةُ الانحراف والضلال، ولا تؤمنُ فتنته وتغيُّرهُ، وافتئاتٌ على هذا الحكم الشرعي الواقعي.
قال الشيخُ علاءُ الدين، علي بن إسماعيل القونوي كما ذكره العلامة البقاعي في مصرع التصوف (2/66): إنما نؤوِّلُ كلام من ثبتت عصمتُهُ، حتى نجمع بين كلاميه، لعدم جواز الخطإ عليه، وأما من لم تثبتْ عصمتُه، فجائزٌ عليه الخطأ، والمعصية، والكفر، فنؤاخذه بظاهر كلامه، ولا يُقبل منه ما أوَّلَ كلامه عليه، مما لا يحتمله، أو ما يخالف الظاهر وهذا هو الحقُّ. اهـ
قال العراقي، كما في مصرع التصوف (134): وهذا مما لا نعلمُ فيه خلافًا بين العلماء بعلوم الشريعة المطهرة. اهـ
قال العلامة الشوكاني في الصوارم الحداد، كما في الفتح الرباني(2/1000):وقد أجمع المسلمون أنه لا يؤوَّلُ إلا كلامُ المعصوم.اهـ
وحقق- رحمه الله- أن الفعل في معنى القول فقال (ص40-41): والفعل في معنى القول في امتناع تأويل حكم ظاهره في حقِّ غير المعصوم، بحمله على العادة، والسيرة، والطريقة، بل هو آكد؛ لأن الفعل يشبه التنصيص، وقد يكونُ الفعل أبلغ من القول، كما قاله المحقق أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات(3/313)، و(4/59) وقال في الاعتصام(1/371):فإنَّ العملَ يُشبِهُهُ التنصيصُ بالقول؟!، بل قد يكونُ أبلغَ منه !!. اهـ
ولذا قال (3/71): الاقتداءُ بالأفعالِ أبلغُ من الاقتداءِ بالأقوالِ- فإذا وقعَ ذلكَ ممَّن يُقتدى بهِ كان ذلك أشد ؟!!-. اهـ
ولذا رجَّح بعضُ أهلِ العلم الفعل على القول إذا تعارضا، لأنه أدلُّ وأقوى في البيان، كما ذكره الإمام السمعاني في القواطع (2/195).
وتأويلُ خطإ من أخطأ في القول أو الفعل، بحمله على العادة والسيرة كما قال أبو الحسن، وسماهُ (المُجملُ والمُفصَّلُ)، وعليه ينطبقُ انطباق الكفِّ على الكفِّ، ما ذكرهُ الشيخ الإمام- أصلحه الله- في قاعدتيه(كَثرَة المَحاسِنِ...)،و(العِبرَةُ بِسيرَةِ الرَّجُلِ)،(وهُمَا هُوَ).اهـ
2) حصر الجرح والتعديل على الرواة
قال الشيخ الفوزان- وفقه الله- بعد أن سئل أحسنَ الله إليكم: بعض الإخوة يصفون عالما من العلماء بأنه حاملُ رايةِ الجرحِ والتعديل، فمن جرحه فهو مجروح بحجة أنه لا يجرح إلا بدليل، فيلزم اتباعه في ذلك.(4)
الجرح والتعديل في الإسناد وفي علم الحديث وهذا أهله ماتوا، ما بقي منهم أحد ما فيه أحد فيما نعلم من علماء الجرح والتعديل، لكن قد يكون من علماء الغيبة والنميمة، هذا موجود ممن يجرح الناسَ ويغتاب الناس هذا ما هو بالجرح والتعديل ! الجرح والتعديل من علم الإسناد، وهذا له رجاله وانتهوا، ماتوا الله أعلم ما أعلم أحدا، قد يكونا فيمن يقرأ كتب الجرح والتعديل ويستفيد منها، نعم.
أما أن يقال هذا من علماء الجرح والتعديل، هذه كلمة كبيرة ما تنطبق على من يقتصر على المطالعة وعلى قراءة الكتب هذا ما يكون من علماء الجرح والتعديل، لكن يقال مطلعٌ، فلانٌ مطلع على كتب الجرح والتعديل فقط نعم.(5) اهـ
وهذا الحصرُ مردود عند العلماء المتقدمين والمتأخرين، قال الشيخ سعيد- رحمه الله- في تنزيه السلفية (ص216): ... ولذا قال النووي في شرحِ حديثِ ابن عمر- رضي الله عنهما-(6) الذي رواهُ البخاري (2442)، ومسلم (6521)(7)، مرفوعًا (مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، وقد بيَّنَ المقصودَ بالسِّترِ المندوبِ إليه، قال: وأمَّا- جرحُ الرواةِ!!، والشهودِ!، والأُمناءِ، على الصَّدقاتِ!، والأوقافِ!، والأيتام!، فيجبُ جرحُهم؟!!- عند الحاجةِ، ولا يَحِلُّ السِّترُ عليهم!، إذا رأى مِنهُم مَا يَقدحُ في أهليِّتِهم؟!!، وليس هذا من الغيبة المُحَرَّمةِ، بل من النَّصيحةِ الواجِبَةِ وهذا مُجمعٌ عليهِ. اهـ
وقال النووي- رحمه الله- في كتابه رياض الصالحين (ص375-376): اعلم أن الغيبة تباحُ لغرضٍ صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليها إلا بها، وهو ستة أسباب وذكر منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود، وقال: أن ذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها، المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته، ويجب على المشاورِ أن لا يُخْفِي حالَهُ، بل يذكر المساوئَ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها، إذا رأى متفقها يتردَّدُ إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلَطُ فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيِّلُ إليه أنه نصيحة فليُتفطن لذلك. اهـ المراد
وقال- رحمه الله- في شرح صحيح مسلم (ج10ص109): وفيه- يقصد حديث فاطمة بنت قيس حين خطبها أبو الجهم ومعاوية- رضي الله عنهما- فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ)-.(8)
دليلٌ على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحةِ، ولا يكون هذا من الغيبة المحرَّمة، بل من النَّصيحة الواجبة، وقد قال العلماءُ: إن الغيبة تباح في ستَّة مواضع، أحدها الاستنصاح(9)، وذكرتُها بدلائلها في كتاب الأذكار ثم في رياض الصالحين. اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في رسالةِ الغيبة كما في مجموعةِ الرسائل (2/278) كما في تنزيه السلفية (ص228): فبيَّنَ لها أن هذا فقيرٌ، قد يعجزُ عن حقِّكِ، وهذا يؤذيكِ بالضَّربِ، وكان هذا نُصحًا لها، وإن تضمَّن ذكرَ عيبِ الخاطبِ. اهـ
وقال ابن رجب- رحمه الله- في الفرق بين النصيحة والتعيير (ص03): اعلم أن ذكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذم، والعيب، والنقص، فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين، أو خاصة لبعضهم، وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم، بل مندوب إليه، وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل، وذكروا الفرق بين جرح الرواة، وبين الغيبة، وردوا على من سوى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه، ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايتهم منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطإ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة، وتأول شيئا منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به، ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضا، ولهذا نجد في كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير، وشروح الحديث، والفقه، واختلاف العلماء، وغير ذلك ممتلئة بالمناظرات، وردوا أقوال من تُضَعَّفُ أقواله من أئمة السلف والخلف، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم، وادعى فيه طعنا على من رد عليه قوله، ولا ذما ولا نقصا، اللهم إلا أن يكون المصنف ممن يفحش في الكلام، ويسيء الأدب في العبارة، فينكر عليه فحاشته وإساءته دون أصل رده ومخالفته، إقامة بالحجج الشرعية والأدلة المعتبرة. اهـ
وقال شيخُ الإسلام في رسالةِ الغيبة كما في مجموعةِ الرسائل (2/278): ولهذا وجبَ بيانُ من يغلطُ في الحديث والروايةِ، ومن يغلطُ في الفتيا، ومن يغلطُ في الزُّهد والعبادة. اهـ
وقال شيخُ الإسلام كما في الفتاوى (19/123): يجبُ أن نبيَّنَ الحق الذي يجبُ اتباعُهُ، وإن كانَ فيهِ بيانُ خطإِ من أخطأَ من العلماء والأمراءِ. اهـ(10)
وقال الإمام السخاوي كما في إظهار العداء لأخينا أبي موسى العربي البسكري (ص46 نسخة مصورة): الملحوظ في تسويغ ذلك كونه نصيحة، ولا انحصار لها في الرواية، فقد ذكروا من الأماكن التي يجوز فيها ذكر المرء بما يكره ولا يُعد ذلك غيبة بل هو نصيحة واجبة، أن تكون للمذكور ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحاً لها، وإما بأن يكون فاسقاً أو مغفلاً، أو نحو ذلك، فيذكر ليزال بغيره ممن يصلح، أو يكون مبتدعاً أو فاسقاً ويرى من يتردد إليه للعلم ويخاف عليه عود الضرر من قبله، فيعلمه ببيان حاله، ويلتحق بذلك المتساهل بالفتوى، أو التصنيف، أو الأحكام، أو الشهادات، أو النقل، أو المتساهل في ذكر العلماء، أو في الرشا والارتشاء، إما بتعاطيه له، أو بإقراره عليه مع قدرته على منعه، وأكل أموال الناس بالحيل والافتراء، أو الغاصب لكتب العلم من أربابها، أو غير ذلك من المحرمات، فكل ذلك جائز أو واجب ذكره ليحذر ضرره، وكذا يجب ذكر المتجاهل بشىءٍ مما ذكر ونحوه من باب أولى. اهـ
وبهذا يتضح أن علم الجرح والتعديل ليس خاصا بالرواة، وهو يشمل الأصناف التي ذكرها العلماء آنفا، تحقيقا لمقصد الشرع المتمثل في النصيحة، عملا بقوله- صلى الله عليه وسلم-: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) وقد بينها- صلى الله عليه وسلم- حينما سئل لمن يا رسول الله فقال: (للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ).(11)
والشيخ الفوزان- حفظه الله تعالى- من العلماء العاملين المعروفين بالرجوع إلى الحق، نحسبه كذلك- والله حسيبه- ولا نزكي على الله أحدا وقد وقفت على تراجعه عن أمرين: وهما قوله أن جماعة الإخوان المسلمين من أهل السنة، وكذا القول بعدم تصنيف الناس، وأرجو من الله تعالى أن يوفقه للرجوع إلى الحق في هاتين المسألتين، ولا حجة لأهل الأهواء في كلامه؛ لأنه كل يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي- صلى الله عليه وسلم-.
هذا ما تيسر لي جمعه أسأل الله- عز وجل- أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ولا يجعل منه لغيره شيئا، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
تم الفراغ منه مساء يوم الثلاثاء 17 ذي القعدة 1436 هجري.
كتبه: أبو عبد الله إبراهيم بن خالد التبسي الجزائري ــ غَفَرَ اللهُ لَهُ و لوالديه ـــ.
____________________
1 - رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (ج1-380 نسخة مصورة عن طبعة دار ابن الجوزي) واللفظ له قال المحقق إسناده صحيح وهو كما قال، وأخرجه عبد الرزاق كما في جامع بيان العلم وفضله (ج2-2377) بإسناد صحيح.
2 - يقصد دفاع شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم على أبي إسماعيل الهروي والكلام مذكور (ص41-42) ودفاع الذهبي على ابن حبان (ص42).
3 - ومن أدلة وجوب الحكم بالظاهر، قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وبوب الإمام النووي- رحمه الله- على هذه الآية، بباب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى في كتابه رياض الصالحين.
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11].
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: (مِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّهِ. وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا. وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللّهِ)، أخرجه البخاري- فتح- (ج1-25) ومسلم- نووي- (ج1-22) واللفظ له من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-.
وما جاء عن عبدالله بن عتبة عند البخاري- فتح-(ج5-2641)قال: سمعت عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول:"إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُ سَرِيرَتَهُ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ".
4- هذا تعريض بالشيخ ربيع- وفقه الله- والتعميم المذكور منتقضٌ بما بدر من الشيخ ربيع، في حق إخوانه من طلاب العلم باليمن، فقد جرحهم بغير دليل، وسكت عن مخالفيهم مع أنهم أهل بدع وضلالات، لكن القوم يحملهم على ذلك، الانتصار لبعض رموزهم الذين تكلم فيهم الشيخ ربيع بحق، والذي عليه الشيخ يحي- حفظه الله- وإخوانه من المشايخ وطلبة العلم، عدم قبول ما أخطأ فيه الشيخ مع حفظ كرامته.
5- من مادة صوتية على اليوتيوب.
6- في الأصل "عنه" والأولى الترضي عنهما.
7- صوابه (6578).
8- أخرجه مسلم- نووي- (ج10-1480)، وقد وهم النووي- رحمه الله- في عزوه للبخاري أيضا في رياض الصالحين، ونبه المحقق على ذلك.
9- ومن الاستنصاح ذكر مخازي الدعاة المتعنتين من أهل البدع، حتى يحذرها الناس، ولا يكفي فيمن ظهر شره وانتشر، النصيحة السرية، بل يرد عليه علنا وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه، وعليه جمع من أهل العلم المحققون.
10- تنزيه السلفية (ص227).
11- أخرجه مسلم- نووي- (ج2-55) من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري- رضي الله عنه-.